قال تعالى: ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) هذه الآية تقرر حكماً من أهم الأحكام الإسلامية التي يبدأ غراسها في القلب، ثم يتفرع أثرها في عامة قضايا المجتمع.
ذِكر الله تعالى ..!! أهم منطلق تربوي يضعه الله تعالى لحياة عباده في الأرض، وهو ليس بسبسة لسان ولا فرقعة سبحة ولا قفزاً أو التواء على الأرض، وإنما هو أن يظل القلب يسبح في طائف من مراقبة الله تعالى وتصور أنه عز وجل يطلع على كل غيب مجهول وضائع مستور، وأنه لا مناص من وقفة حساب بين يدي هذا الإله العظيم على كل جناية وعصيان!.
هذا هو الحكم الذي تقرره هذه الآية وآيات كثيرة في كتاب الله تعالى.
ولكن ماهي الحكمة ؟ .. وما وجه الحاجة إلى ذلك ؟ .. وهل هي حاجة الله أو العبد ؟.
الحكمة .. أن حياة المجتمع الإنساني لا تسير على نهج سوي متناسق، إلاّ إذا استشعرتْ أفئدة الناس رقابة الله تعالى، وتذكرتْ في جنب ذلك أنه ما من حق يضيع ولا واجب يطوى.
وتفصيل القول في ذلك أن هذه الحياة الدنيا من شأنها أن تقبل إلى الإنسان بأحد وجهين: أحدهما وجه من النعمة بكل وسائلها وأسبابها، ومن شأن الإنسان إذا ما رأى من الدنيا هذا الوجه أن يتيه في سكرة النعيم ويمتلكه طغيان الترف ، فلا يحسب حساباً لتقلبات الدهر ومصيره، ولا يلتفت إلى َمن حوله أو إلى ما ينبغي أن يكون من شأنه تجاههم.
والآخر وجه من البؤس والمصائب والآلام. ومن شأن الإنسان إذا ما أقبلت إليه الدنيا بوجهها هذا، أن يعتصر قلب الهم ويأخذ الكرب بحلقه وأن ينظر حوله فلا يرى الحياة إلا سجناً مفعماً بالمصائب والآلام، ومن حيث هي للآخرين الذين من حوله مقصق لهوٍ ومرتع أنس وأداة نعيم. وربما فكر ونظر .. فلم يجد دواءً لآلامه خيراً من أن يحكم على نفسه بالإعدام وينهي أيام حياته على الأرض!.
فما هو الدواء الذي من شأنه أن ينبه ذلك السكران من سكر ترف نعيمه، ويطلق هذا المعذب من سجن بلائه وضيقه ؟
أما سنة الحياة فلا سبيل إلى تبديلها .. وستظل تبلو الناس بهاتين التجربتين. وإنما الممكن هو البحث عن سبيلٍ للتغلب على آفاتها. فما هو السبيل ؟.
لقد عجزت أبحاث الفلاسفة والمصلحين عن اصطناع أي علاج أو وسيلة من شأنها أن تضبط نعيم الحياة عن التحول عن حالة من الترف والجنون، وأن تضبظ بلواءها عن التحول إلى اختناق وكرب لايطاق.
ولكن الوسيلة الناجعة الوحيدة هي اتباع الوصفة التي خاطب الله بها عباده جميعاً .. الوسيلة هي ربط القلب بذكر الله تعالى، فإن من شانه أن يجعل حياة الإنسان في نجوة عن أن تقع ضحية لسكرة نعيمٍ أو ضحيةٍ لمصاب أليمٍ. ذلك أن ذكر الله عز وجلّ يورث القلب أثرين مختلفين، فهو يورثه الطمأنينة والرضى ويملؤه بالرهبة والخشية. أما الطمأنينة فعلاج لمن أدبرت عنه الدنيا وابتلته بمصائبها، وأما الخشية فعلاجٌ لمن أقبلت إليه الدنيا ورقص من حول نعيمها.
وانظر إلى هذه الحقيقة كيف يجعها الله عز وجلّ:
يقول الله عز وجلّ مرة: ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ويقول مرة أخرى: ( الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)
أما طمأنينة القلب فتأتي من يقين المؤمن الذاكر بأن الدنيا بكل ما فيها ليست مما بعدها إلا كحلم طاف بنائمٍ في الليل. يوشك اليل أن يمضي ويقبل الفجر بحقائق الحياة وألوانها وليس من حق يضيع في ميزان الله وعدله.
وأما خشية القلب فتأتي من قول الله تعالى: (ولتُسئلن يومئذ على النعيم) وبما يعقب نعيم الدهر من غصص لا نجاة منها إلا بلطف الله ورحمته.
ومن بين الطمأنينة والخشية يعتدل المزاج وتستقيم أسباب الحياة.